روائع مختارة | قطوف إيمانية | نور من السنة | في حاجة الإنسانية إلى الإسلام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > نور من السنة > في حاجة الإنسانية إلى الإسلام


  في حاجة الإنسانية إلى الإسلام
     عدد مرات المشاهدة: 2739        عدد مرات الإرسال: 0

تهدُف الدراسة الأدبية للحديث النبوي الشريف إلى تحقيق عدد من الأهداف الجليلة؛ فهي تجعلنا نقف على أسرار البنية اللغوية والبيانية لهذا البيان الفذّ في كلام بني البشر، والوقوف على خصوصية الفصاحة والبيان التي أوتيها النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- وما كان من بلاغته وفصاحته وسلاسة ألفاظه، مع الغاية في إيجاز اللفظ ووضوح المعنى. فضلًا عما تحققه مثلُ تلك الدراسات من الكشف عن وسائل وطرق في التجديد البياني، والتعمق في نوعية الأفكار والموضوعات التي طرقها الحديث النبوي، ومعرفة أثر الحديث النبوي في الحياة العربية والإنسانية من جوانبها كلها.

 

والسنة النبوية المطهرة زاخرة بأمثلة تدل على صحة ما تقدم وتؤكده، ولعل من نافلة القول التذكير بما أوتيه النبي عليه الصلاة والسلام من جوامع الكلم، حتى أثر عنه القول: «أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا». ومن الأحاديث التي تبين ما تقدم وتزخر بلمسات ساحرة من البيان اللغوي النبوي، ما رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها نقيةٌ، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفةٌ أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعَلِم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».

لقد جاء الحديث في ثلاثة أقسام:

القسم الأول: «مثل ما بعثني الله... أصاب أرضًا». وقد سلك فيه النص طريق التكثيف الذي يتبعه تفصيل، كما يعبر المعاصرون، ويسميه الأولون بالإجمال الذي يتبعه تفصيل، إذ جاء التكثيف لاستجلاب الانتباه لإدراك التفصيل، وإثارة لهفة القلوب إليه، مما يدل على تماسك النص وترابطه، لاسيما في الربط الفني بين الهداية والماء، لأنهما ضروريان لحياة الإنسان. وفي هذا القسم أيضًا تقديم الأهم، فقد قدم الهدى على العلم، وهذا يدل على أن الإسلام يصل بالمرء إلى أعلى مراقي الصلاح والفلاح، ثم ينطلق به إلى الحقيقة الكبرى التي تساند فكره إزاء تخرصات الاتجاهات الفكرية. وفي هذا القسم أيضًا الإشباع؛ إذ عبر بالغيث الكثير للدلالة على الخيرية العالية التي يحملها الإسلام المشبه بالغيث.

وجاء اختيار الغيث لأنه يأتي دائمًا ملائمًا نافعًا غير مؤذ. كما أشبع بأنه أصاب أرضًا مما يفيد التبليغ، وعبر بالقول: «بعثني.. أصاب» دلالة على الحركة ونهايتها من الله إلى باطن القلوب المجسمة في عملية الغيث.

والقسم الثاني: نجد فيه امتدادًا للقسم الأول في تكرار الماء، لكنه هنا جاء من حيث تقبل الأرض له وجمعه لنفع الإنسان والحيوان، متدرجًا على سبيل التصعيد من الأعلى إلى الأسفل في التقبل من عدمه. ثم تدرج في سلم الحيوانات: الإنسان، فالحيوان، فالنبات، كما نجد في هذا القسم التوازن بين الصيغ، مثل: «لا تمسك» و«لا تنبت»، مما يرسم إصرارًا على المعنى، وجمالًا صوتيا. وكذلك الأمر في قوله: «قبلت الماء» و«أمسكت الماء».

وفي هذا القسم افتتاحيات تضفي طابعًا صوتيا مفيدًا لتقسيم الفكرة: «منها نقية» «منها أجادب» «منها طائفة». يأتي بعدها تنويع. وكذلك: «الماء... فأنبتت»، «الماء... فنفع»، «الماء... ولا تنبت». وهذان المقطعان: «فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت...»، «وكانت منها أجادب أمسكت الماء» يشكلان تقابلًا مع المقطع الثالث من هذا القسم، وهو «أصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ»، من خلال النفي للحالين السابقين: حال قبول الماء، وحال إمساكه لنفع الإنسان والحيوان والنبات. وجاء التنكير «لا تمسك ماء... كلأ» ليفيد الشمول، ليتناسب مع حال الرفض الكلي الهجومي، الذي يرفض مسلمات الإسلام دون التمحيص أو البحث فيها.

وزاد الموقفَ شدةً ذلك التعبيرُ بـ «إنما هي قيعان» الذي يفيد الحصر، تأكيدًا على العناد واختناق العقل ليكون عبرة في كل عصر، لما في هذا التقابل والتوزيع والتنويع من توسيع المدارك وتهيئة الأذهان إلى فهم تباين المواقف وأسبابها، استنباطًا من تباين أحوال الأرض مع الغيث وأسبابه.

القسم الثالث: «فذلك مثل من فقه... فعلم وعلم». إذ نجد فيه التعبير بـ «فقه» للدلالة على ما يجب أن يكون عليه المسلم من الفهم الدقيق للإسلام، كما أنه من الاسترجاع إلى القسم الأول بعد تقديم الصورة الحسية لتفسير المعنى، وهناك اسم الإشارة «فذلك» لاستحضار المشاهد السابقة وتفسير الأمر العقلي المجرد بالمحسوس، يقوي ذلك أسلوب المقابلة بين الفقه والعلم وعبارة «لم يرفع بذلك رأسًا».

ومن أهم السمات البيانية العامة في هذا الحديث أن البيان النبوي اتبع فيه طريقة اللف والنشر المرتب، إذ قسم الأصناف تقسيمًا حسنًا، ثم أتبع كل قسم ما يخصه، فذكر اختلاف الأراضي في تقبل الماء، ثم أتبعها باختلاف الناس في قبول الهداية. وتراوحت الجمل في الحديث بين الطول والقصر، والأغلب القصر، بل كانت في بعض المقاطع كلمة واحدة، لإفادة توزيع الفكرة وتقسيمها. كما يلحظ على الحديث غلبة الجمل الفعلية الموائمة للتفاعل البشري مع الإسلام، كما يغلب على الفعلية الزمن الماضي المشير إلى حتمية التحقيق. ويلحظ أن البناء في هذا الحديث من النوع المغلق الدائري؛ لأنه ينتهي بالمعنى الذي ابتدأ به، فقوله: «مثل ما بعثني الله به» فاتحة النص، ثم ختمه بـ «هدى الله الذي أرسلت به»، أي جاء النص محققًا وحدته العضوية من البداية إلى النهاية، ومحققًا ترابط الجزئيات خلالها في غاية الإحكام.

أما من ناحية جمال التصوير الفني في الحديث، فإن الحديث قد استعمل الوسيلة الجمالية المعروفة (التجسيم)، أي نقل المعنى العقلي المجرد إلى عالم الحس، ولم يقم التجسيم في الحديث على علم البيان فقط، بل إن الكلام الحرفي صار مصورًا في هذا السياق، فقد اعتمد على التشبيه، وكانت البداية بعبارة «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث».

وقد حفلت اللوحة الكبرى لنص الحديث بثلاثة مشاهد:

المشهد الأول: منظر تقبل الماء وانتشار العشب وعموم الخيرات.

المشهد الثاني: فيه حركة تجمع المياه ثم تحولها إلى مكان آخر، ثم تنشيط الصورة بحركة الحياة في الشرب وسقي الحيوان والزراعة، وهو مشهد جماعي عريض.

المشهد الثالث: الدال على الحركة الجامدة، وذلك بسبب التعنت والعناد.

وفي القسم الأخير صورة جزئية هي صورة الرفض في قوله: «ولم يرفع بذلك رأسًا»، ووسيلتها البلاغية الكناية بهذه العبارة التي أفادت عدم الاهتمام بأولى وأحق ما يجب الاهتمام به، وهو هداية الله تعالى؛ لأن من اهتم بشيء توجه بحواسه إليه، ورفع رأسه ناظرًا ومصغيًا له، والرأس أشرف أعضاء الجسد، وفيه ما يميز الإنسان عن باقي المخلوقات، وهو العقل.

فالنص جمع جماليات رائعة في بنائه التركيبي، إذ جاء التصوير في لوحة جمعت مشاهد متعددة، حافلة بزمن وحركة وألوان، كما جاءت المادة الفنية موضحة للمعنى موافقة إياه، مما أدى إلى التأثير والإقناع.

الكاتب: هشام منور.

المصدر: موقع الألوكة.